الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية: قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا}وعيد محض، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا، فقوله تعالى: {خلقت وحيدا} معناه منفردا قليلا ذليلا، فجعلت له المال والبنين، فجار ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين، وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد، ف {وحيدا} حال من التاء في {خلقت}، والمال الممدود: قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار، وقال سفيان: بلغني أنه أربعة آلاف دينار وقاله قتادة، وقيل: عشرة آلاف دينار، فهذا مد في العدد، وقال النعمان بن بشير هي الأرض لأنها مدت، وقال عمر بن الخطاب: المال الممدود الربع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع، و{شهودا} معناه حضورا متلاحقين، قال مجاهد وقتادة: كان له عشرة من الولد، وقال ابن جبير: ثلاثة عشر، والتمهيد: التوطئة والتهيئة، قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطا. وقوله تعالى: {ثم يطمع أن أزيد} وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا، وقوله تعالى: {كلا} زجر ورد على أمنية هذا المذكور، ثم أخبر عنه أنه كان معاندا مخالفا لآيات الله وعبره، يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفا للإبل. ويحتمل أن يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التأويل سبب كلام الوليد في القرآن بأنه سحر، و(أرهقه) معناه أكلفه بمشقة وعسر، و{صعودا}: عقبة في جهنم، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة. وقوله تعالى مخبرا عن الوليد {إنه فكر وقدر} الآية، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد أن يقارب الإسلام، ودخل إلى أبي بكر الصديق مرارا، فجاءه أبو جهل فقال: يا وليد، أشعرت أن قريشا قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولا يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن، وقال: افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن، فقال: أقول شعر ما هو بشعر، أقول هو كاهن؟ ما هو بكاهن، أقول هو{سحر يؤثر} هو قول البشر، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين، فقوله تعالى: {فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك.وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال: (والله إن له لحلأوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لحياة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى) ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له: هو شعر، فقال والله ما هو بشعر، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا: فهو كاهن، قال والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم، قالوا: هو مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، ولقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا: هو سحر، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه.قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: {فقتل كيف قدر} أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل: «ويل أمه مسعر حرب»، ومجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيرا كأنه رآنا حين قال كذا، وهذا معنى مشهور في كلام العرب، ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وأنه ضل عند ذلك وكفر، وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى: {ثم نظر}، معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد عليه السلام ف {عبس} لذلك {وبسر} أي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسدا له فأدبر واستكبر، أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله أولا ليهتدي ولحقته الكبرياء، وقال هذا سحر، و{يؤثر} معناه يروى ويحمل، أي يحمله محمد عن غيره، وعلى التأويل أن الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله: {ثم نظر} معناه معادا بعينه لأن {فكر وقدر} يقتضيه لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الوليد فقال له: «انظر وفكر» فلما فكر قال ما تقدم.{سأُصْلِيهِ سقر (26)}{سقر} هو الدرك السادس من جهنم على ما روي، و{أصليه} معناه أجعله فيها مباشرا لنارها، وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها ثم بين ذلك بقوله: {لا تبقي ولا تذر} المعنى: {لا تبقي} على من ألقي فيها، {ولا تذر} غاية من العذاب إلا وصلته إليها، وقوله تعالى: {لواحة للبشر}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس: معناه، مغيرة للبشرات، محرقة للجلود مسودة لها، و(البشر) جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته، وقال الشاعر الأعشى: الخفيف:وأنشد أبو عبيدة: الرجز: وقال الحسن وابن كيسان: {لواحة} بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر، والمعنى أنها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقرأ عطية العوفي {لواحة} بالنصب، وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ابتداء وخبره مقدم في المجرور، ولا خلاف بين العلماء أنهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، وقد قال بعض الناس: إنهم على عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم لأن بها تقووا، وروي أن قريشا لما سمعت هذا كثر إلغاطهم فيه وقالوا: لو كان هذا حقا، فإن هذا العدد قليل، فقال أبو جهل: هؤلاء تسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم، وقال أبو الأشدي الجمحي: أنا أجهضهم على النار، إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة، فنزلت في أبي جهل: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35] الآية، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن شبل {تسعْة عشر} بسكون العين، وذلك لتوالي الحركات، وقرأ أنس بن مالك وأبو حيوة {تسعةُ عشر} برفع التاء، وروي عن أنس بن مالك أنه قرأ {تسعة أعشر}، وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} تبيين لفساد أقوال قريش، أي إن جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و{ليستيقن} أهل الكتاب: التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيمانا ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين، وقوله تعالى: {وليقول الذين في قلوبهم مرض} الآية، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضا عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعادا أن يكون هذا من عند الله، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان. اهـ. .قال الألوسي: {ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا}نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي بمن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل و{وحيدا} حال إما من الياء في ذرني وهو المروى عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام عن كل منتقم أو من التاء في {خلقت} أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في اهلاكه أو من الضمير المحذوف العائد على {من} على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون.{وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنماء من مد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة وعن ابن عباس هو ما كان له بين مكة والطائف من الإبل والنعم والجنان والعبيد وقيل كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبى شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف ألف دينار وهذه الأقوال ان صحت ليس المراد بها تعيين المال الممدود وانه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا.{وبنِين شُهودا} حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلفت الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجناية نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه والعجب أيضا أنهم لم يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه.{ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} بسطت له الرياسة والجاه العريض فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين منظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش وكذا كانوا يلقبونه بالوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.{ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي واستعمال ثم للاستبعاد كثير قيل وهو غير التفأوت الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إلى ثم ترجو إحساني وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني.{كلاّ} ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه: {إِنّهُ كان لاياتنا عنِيدا} جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل إنه كان معاندا لآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال والمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.{سأُرْهِقُهُ صعُودا} سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق شبه ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الاستعارة التمثيلية وروى أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا» وعنه صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت».{إِنّهُ فكّر وقدّر} تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز وجل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى: {إنه كان لآياتنا عنيدا} [المدثر: 16] أي أنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول.{فقُتِل كيْف قدّر} تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحزورميه الغرض الذي كان ينتحيه قريش فهو نظير {قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرروه على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ومآله على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأن رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا فيعطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وانك كاره له قال وماذا أقول (فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا باشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله ان لقوله الذي يقوله حلأوة وان عليه لطلأوة وانه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وانه ليحطم ما تحته) قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر فعجبوا بذلك وقال محيى السنة لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} [غافر: 1-3] إلى قوله تعالى: {المصير} قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي عليه الصلاة والسلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال (والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلأوة وان عليه لطلأوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وانه ليعلو وما يعلى) فقال قريش صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال أبو جهل أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق وتقولون انه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن وتزعمون انه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا في كل ذلك اللهم لاثم قالوا فما هو ففكر فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه.{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف بثم للدلالة على تفأوت الرتبة وان الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله:والاطراء في الاعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره وقال الراغب في غرة التنزيل كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم قدر ما أتى به من القرآن فقال إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتى به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بضرب من الاحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل اهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك اهلاك المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثم قتل كيف قدر لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا وقال فإن ادعينا ان ما أتى به من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل اهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرار والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي أنه ليس من الاعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقريره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء في تضاعيف كلامه فادخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال وهو متعسف وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال ونقل عن صاحب النظم {فقتل كيف} [المدثر: 19] أي عذب ولعن كيف قدر كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة على التفأوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والاعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفار غير مانعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الاعتراض المقرون بها فاسألوا أهل الذكر ومنه قوله: وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الاعتراض وعدت منه والاعتراض بين قوله تعالى: {إنه فكر وقدر} [المدثر: 18] وقوله سبحانه: {ثُمّ نظر} للعطف وثم فيه وفيما بعد على معناها الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى.{ثُمّ عبس} قطب وجه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قطب في وجهه عليه الصلاة والسلام {وبسر} أي أظهر العبوس قبل أوانه وفي غير وقته فالبسر الاستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وماء بسر متنأول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم باشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة: وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بسر كالتأكيد لعبس ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر المركب وأبسر إذا وقف ولم أر من جوز إرادة ذلك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف.{ثُمّ أدْبر} عن الحق أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {واستكبر} عن اتباعه.{فقال إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ} أي يروى ويتعلم من سحرة بابل ونحوهم وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلعثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهلة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى وقوله: {إِنْ هذا إِلاّ قول البشر} كالتأكيد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا ومن كلام الله تعالى: {وأنْ اختلافا} معنى ولاعتبار الاتحاد في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر سهل وفي وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم أن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما قال ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى: {سأُصْلِيهِ سقر} بدل من {سأرهقه} إلخ بدل اشتمال لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان يظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله أن القرآن سحر يؤثر بإصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم.{وما أدْراك ما سقرُ} أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وأدراك خبره وما الثانية خبر لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسقر مبتدأ أي أي شيء هي في وصفها فإن ما قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة من غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سقر والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تبقى إلخ وليس بذاك أي لا تبقى شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد وقال ابن عباس لا تبقى إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تذر أن تعأودهم سبيل العذاب الأول وروى نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلا جهنم وقيل لا تبقى على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة وقال السدي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم.{لواحةٌ لّلْبشرِ} قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود وفي بعض الروايات عن بعض بزياة محرقة والمراد في الجملة فلواحة من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال: والبشر جمع بشرة وهي ظاهر الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل واعترض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه: {لا تبقى ولا تذر} [المدثر: 28] الصريح في الإحراق وأجيب بأنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها وأنت تعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تبقى ولا تذر لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهولة الفظيعة من غير قصد إلى ترق من فظيع إلى أفظع وكونها لواحة وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع النظر عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثلة للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجلود تردد وإن قيل به فتدبر وجوز على تفسير لواحة بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كيسان والأصم لواحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 36] وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام ورفع {لواحة} على أنه خبر مبتدا محذوف أي هي لواحة وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة {لواحة} بالنصب على الاختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير {تبقي} أو{تذر} بناء على زعم الاستلزام وأن يكون حالا من {سقر} والعامل ما مر.{عليْها تِسْعة عشر} الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روى عن ابن عباس أنها لما نزلت {عليها تسعة عشر} قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فقال له أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى:{وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة}. اهـ.
|